من مناهج سيطرة الإستعمار الجديد: إثارة « هجرة الأدمغة »

مقدّمة:

إنّ « هجرة الأدمغة » واقع يدركه اليوم كل جزائري. فكلّ عام يهجر عدد معتبر من الكوادر أو العلماء أو الأطباء ويستقرون في الدول الغربية. إنّ هجرة الأدمغة هذه آفة وطنية بأتم معنى الكلمة، إذ من المؤسف ومن المؤلم أن نرى مواطنيين كبروا في الوطن وتكوّنوا فيه ودرسوا فيه من الطور الابتدائي حتى الطور الجامعي يهجرون إلى الخارج ويخدمون تقدّم وتطوّر الدول الغربية الكبرى (وقد يبلغ عدد هذه الأدمغة المهاجرة الألف، على الأقل) ، المعروفة بإمبرياليتها الإقتصادية أو العسكرية (خاصة ألمانيا والولايات المتحدة الأمريكية وانجلترا وكندا وفرنسا) . توفّر هذه الدول الامبريالية الاستعمارية الجديدة لأدمغة الدول الغير مستقلة اقتصاديا (ما يسمى سياسيا بالعالم الثالث) حياة من « النعيم المادي وكل  الوسائل  التكنيكية الممكنة للقيام بالبحوث واختراع الآلات أو الأدوية الجديدة، أي لتقديم قيمة زائدة لعلوم وتكنولوجيا وطب البلدان الغربية الرأسمالية الإمبريالية. إنّها عميلة إغراء حقيقية يقوم بها الرأسمال الامبريالي الكبير في الغرب لجلب أدمغة من بلدان العالم الثالث وحتّى من بلدان شرق أوروبا*. صحيح أنّنا نلاحظ في وطننا نقائص عديدة في مجال البحث العلمي والطبي (من ظروف مشجعة على البحث مثلا) ولكن الحقيقة الأليمة هي أن الدول الإمبريالية، الممتلكة لآليات ووسائل التكنولوجيا الحديثة، تجني ثمار تكوين كوادر البلدان المتأخرة في أوطانهم الأصلية ونحن نسمّي هذه العملية بـ »تفريغ أدمغة » البلدان الغير مستقلة اقتصاديا.

مقدمة من إعداد: محمّد وليد قرين

إليكم الآن نص عن هجرة الأدمغة كتبه في ثمانينيات القرن الماضي الإقتصادي السوفييتي يوري بوبوف، رئيس كرسي الإقتصاد وتنظيم الانتاج في جامعة عنابة، من عام 1976 إلى عام 1977:

يجري اعداد الكادرات الوطنية للبلدان النامية** في قسمه الأعظم في البلدان الرأسمالية المتطورة. ولكن بلدان الغرب تحضّر الاختصاصيين في مجال العلوم الاجتماعية على الغالب: التاريخ والحقوق والاقتصاد وعلم الاجتماع ، الخ…ويقل جدّا عن ذلك عدد المهندسين والفنيين المتخرّجين من المؤسسات التعليمية في البلدان الرأسمالية. فالبلدان الامبريالية تعمد عن وعي من جهة إلى عرقلة عملية اعداد الكادرات الفنية الوطنية للبلدان النامية وتعمد من جهة ثانية إلى إغواء أفضل الاختصاصيين من البلدان النامية لترك بلدانهم.

لقد وصلت إلى أبعاد واسعة في السنوات الأخيرة هجرة العاملين العلميين والفنيين من البلدان النامية إلى الدول الرأسمالية الأساسية. ومثلا فإنّ 15 ألفا من الأطباء الهنود الذين حصلوا على التعليم في وطنهم يعملون الآن في الخارج وبالدرجة الأولى في الولايات المتحدة وانجلترا وكندا. وتفيد الصحافة بأن جهود الحكومة الهند تذهب عبثا ، حيث هناك طبيبان لكل 100 ألف من السكان تقريبا.

إنّ اجتذاب الولايات المتحدة للاختصاصيين الأجانب- في الفترة من عام 1969 إلى 1977 هاجر إلى هناك حوالي 150 ألف عالم وطبيب ومهندس- قد أتاح لها توفير مبلغ 5 مليارات دولار على إعداد الكادرات. أما البلدان النامية، التي تنفق مبالغ طائلة على إعداد الكوادر لديها وفي الخارج، فتقع في وضع عسير حيث تحرم من الاختصاصيين ومن النقود التي أنفقتها على إعدادهم. إنّ هجرة الكوادر العلمية والتكنيكية، إذا حسبنا قيمة أعدادها فقط، تكلّف البلدان النامية مبلغا يزيد إلى الضعف عن « المساعدة » الأمريكية التي تحصل عليها تلك البلدان في مجال التعليم العلمي والتكنيكي

*إنّ مصطلح « البلدان النامية » شرطي إلى حد كبير ونفضّل بدله استعمال مصطلح  » البلدان المستغلّة ، التابعة اقتصاديا وذات الإقتصاد المُخرَّب »

** البلدان التي كانت تشكّل سابقا المعسكر الإشتراكي (رومانيا، ألبانيا، بلغاريا، بولونيا) وبلدين كانا جمهوريتان سوفييتيتان ، قبل انهيار الإتحاد السوفييتي، في سنة 1991 (أوكرانيا ومولدافيا ) والبلدان التي نشأت نتيجة تصدّع دولة جمهورية يوغسلافيا الاتحادية الإشتراكية (صربيا، البوسنة والهرسك، سلوفينيا، كرواتيا، مونتينيغرو، مقدونيا). 

Youri Nikolaïevitch Popov, Юри Николаевич Попов كتبها: يوري نيكولاييفيتش بوبوف

الترجمة عن الروسية: الدكتور اسكندر ياسين

مقتطف من كتاب: دراسات في الإقتصاد السياسي، الإمبريالية والدول النامية، دار التقدّم، موسكو، 1984.

  العنوان الأصلي

Очерки политической Экономи, Империализм и развивающиеся страны, Прогрес, 1982.

من هو يوري بوبوف؟

دكتور في العلوم الاقتصادية وبروفيسور. اشترك في المؤتمر الأول لإقتصاديي « البلدان النامية » المنعقد في الجزائر عام 1965 . ألقى محاضرات في عدد من المعاهد التعليمية العالية في موسكو ، قبل زوال دولة الاتحاد السوفييتي، كما ألقى محاضرات في الإقتصاد في عدد من بلدان آسيا وإفريقيا.