الـ »بوبلاد » و »كابتك ولايتك! »: قراءة في الخطاب العنصري الجهوي بالجزائر العاصمة

انتشر في السنوات الأخيرة سماع كلمة « بوبلاد » وعبارة « كابتك ولايتك » في العاصمة. البوبلاد تلفظ بتقزز كأنّما يتحدث مستعملها عن وسخ أو عن زبل و »كابتك ولايتك » تلفظ بعنف شديد كأنما يخاطب بها مستعملها عدوا ، هي إذا عبارة مشحونة بقدر كبير من الكره.

تعريف البوبلاد: تدلّ في نظر مستعملها على الريفي الذي استقرّ في العاصمة، كما تدلّ على أي نازح من الولايات الداخلية للوطن (الغير الساحلية) بصفة عامّة.

يحمّل مُستَعمِل مططلح « بوبلاد » النازحين الجدد بالعاصمة (الذين استقروا بها في سنوات الارهاب في تسعينات القرن الماضي أو في أولى سنوات هذا القرن) مسؤولية الوقوف وراء كل مظاهر عدم التحضّر في العاصمة. فإن كانت شوارع وأحياء العاصمة موسّخة، إن كانت النساء والفتيات العاصميات تتعرّضن للتحرش المعنوي والجنسي، فذلك يعود إلى وجود الـ »بوبلاد » لأنّ الريفي « همجي »، « متوحّش »، « بوهيّوف »، « جيعان » بـ »طبعه ». نركّز هنا على بـ »طبعه » لأنه منطق مُستَعمِل كلمة « بوبلاد » وهو طبعا تصوّر عنصري بحت لا يرتكز على أدلّة علمية، بل لا أساس له من الصحّة. هو فقط تعبير لعنصرية مجّانية لساكن المدينة تجاه سكّان الأرياف، عنصرية تجنّبه محاسبة الذات ومحاولة فهم والبحث عن الأسباب الحقيقية للتحرش الجنسي والمعنوي ولتدهور النظافة في الوطن، ليس فقط في العاصمة وحدها بما أنّها لا تمثل معيارا أو مثالا لكل الجزائر، على عكس ما يعتقده الكثير من سكان العاصمة. إنّ النظافة غير مرتبطة بأصل جغرافي وإنّما هي أوّلا تربية وثقافة. أمّا التحرش الجنسي فهو يعود، دون أن ندّعي التعمق لأنه ليس موضوع مقالنا، إلى انتشار خطاب رجعي يشيطن المرأة في مجتمعنا الجزائري، خطاب بدأ في نهاية الثمانينات مع صعود النفوذ السياسي والايديولوجي لحركة الـ »فيس » التي استغلت الخطاب المحافظ والرجعي الموجود منذ القدم في المجتمع الجزائري والذي يعادي خروج المرأة إلى الشارع وحقها في العمل والدراسة. واليوم ما زال الرجعيون يروّجون لخطابهم ويعزّزونه من خلال وسائل الإعلام الحديثة (وسائل الاتصال الاجتماعي، فيديوهات، بعض القنوات التلفزيونية الخاصة) . من جهة أخرى نعتبر أنّ أزمة الكبت الجنسي التي يعاني منها جزء كبير من الشباب العازب في مختلف مناطق الوطن قد تفسّر أيضا هذا التحرّش الجنسي بالنساء.

لنرجع الآن إلى مستعمل مصطلح « بوبلاد » ونحاول فهم نفسيته. من هو؟ هو شاب أو مراهق في غالب الأحيان، طالب في الجامعة، بطّال من دون أي كفاءة مهنية أو إطار في مؤسسة عمومية أو خاصة. مولود في العاصمة وكبر فيها. هو نفسه ينحدر من أصل ريفي بما أنّ والداه (أو أحدهما) قدما  من الريف إلى العاصمة أو من مدينة صغيرة في إحدى الولايات الداخلية. إلّا أنّ هذا الشاب ينكر أصله أو يسخر منه، وبما أنه عاصمي المولد فهذا يعطي له الحق (في تصوّره) في الشعور بتفوّق جغرافي وثقافي وحضاري على كل ساكن خارج العاصمة وخاصة على كل ساكن لقرية أو لمدينة صغيرة. هو يمثّل في مخيّلته « لَالْجِيغْوَا » (العاصمي) الـ »فاهم »، الـ »متمدّن »، الذي يعرف « كيفاش يلبس » و »كيفاش يعيش »،  يعرف « الماركة »، « مالك لمعيار الأناقة » وكأن الموقع الجغرافي (العاصمة) يجعل منه تلقائيا « إنسانا متمّدنا » أو كأنّ ارتداء « الماركة » والحصول على الماديّات يمثّلان مقياسا لرقي الإنسان وازدهاره. تصوّر مضحك!

قلنا في بداية المقال أنّ « البوبلاد » تلفظ بتقزز وكأنما يتحدث مستعملها عن وسخ أو عن زبل. لكن لماذا؟ ما العيب في السكن في الريف؟! ما العيب في كون الإنسان ريفي المولد والمنشأ؟! الريفيون هم في العموم فلّاحون، مزارعون ، أي عمّال الأرض وخدمة الأرض عمل نبيل كغيره من الأعمال التي لا تخدم الفرد فقط ولكن تعود بالمنفعة على الجماعة أيضا. فلا عيب إذَا في كون الإنسان فلّاحا. ثم إنّ سكّان الأرياف هم من شكّلوا قاعدة جيش التحرير الوطني ومنحوه أغلبية عناصره في كفاحه التاريخي لتحرير بلدنا من الاستعمار الفرنسي.

كان الناس ينظرون إلى الفلاحة، في ستينات وسبعينات القرن الماضي، نظرة احترام، خاصة خلال فترة الثورة الزراعية (انطلقت سنة 1972) وإنشاء 1000 قرية اشتراكية تم فيها إسكان فلاحين غير مالكين للأرض، إلّا أن الوضع تغيّر منذ بداية الثمانينات عندما قرّر حكام البلاد في تلك الفترة (حكومة شاذلي) التخلّي، تدرجيا، عن تحقيق الثورة الزراعية والاكتفاء الذاتي في الغذاء وعن دعم الفلاحة الوطنية. أدّى ذلك إلى نزوح العديد من الفلّاحين إلى العاصمة وإلى المدن الساحلية والداخلية الكبرى (قسنطينة، وهران، عنّابة مثلا) وتقهقر الانتاج الزراعي والفلاحي في وطننا. بدأ حينها أبناء الفلاحين في احتقار عمل الأرض وتزامن ذلك مع احتقار شباب المدن للعمل اليدوي (في المعامل، النجارة، الحرف التقليدية، إلخ) ، احتقار لا يزال موجودا إلى يومنا هذا وهو أحد اسباب تدهور قطاع الحرف التقليدية الوطنية. إنّ من يحتقر مكانة الفلاح ينسى (أو يتناسى) أنّ هذا الأخير هو من ينتج الخضر والفواكه التي يقتنيها من السوق. ثم إنّ الاحتقار هدّام للتضامن الوطني والاجتماعي ولا ينتج إلا كراهية وعدم ثقة متبادلتين بين سكان العاصمة وسكان الأرياف. لا نؤمن بالتفوق على أساس الموقع الجغرافي إنّما نرى أن التفوق يقاس بالعمل، بإنتاج شيء يخدم الفرد والجماعة (العائلة، المجتمع)، بالأخلاق الحسنة مثلا، إلخ من أفعال إيجابية.

لنمرّ الآن إلى تحليل عبارة « كابتك ولايتك! » التي تعني « خذ حقيبتك وارجع إلى ولايتك! ». من هو المخاطب فيها؟ إنّه الطالب أو العامل في البناء أو التاجر القادم إلى العاصمة من ولاية داخلية من ولايات الوطن. ولماذا تستوقفنا هذه العبارة؟ لأنها عنيفة، لأنها مشبّعة بالكراهية، لأنّها تترجم عنصرية جهوية عاصمية. يحسب الناطق بها أنّ العاصمة ولايته أو هي ولاية « اولاد البلاد » فقط، كأنّ الجزائر العاصمة ملك له أو كأنّها بلد مستقل. حسنا، نسأل هذا العنصري ونقول له: « وين جاية آلجي/دزاير؟ جاية في المرّيخ واقيلا؟! » ثم إنّ دزاير (الجزائر) عاصمة الوطن وعليه فهي عاصمة كل الجزائريين، سواء كانوا يسكنون في المهجر، في السواحل، في الصحراء، في شرق، في غرب، في وسط وفي جنوب البلاد. هي ملك لنا جميعا مثلها مثل كل ولايات وطننا. لا يمكن تقبّل هذه العنصرية الجهوية التي تنادي بطرد مواطنين من العاصمة بحجة أنّهم « برّاوية » (أجانب) « يسرقون » الخبزة/العمل من « أولاد البلاد ». العاصمة كانت منذ القدم (منذ العصور الوسطى) مدينة احتضنت جزائريين قادمين من خارج أسوارها (قبائل، بساكرة، مزابية، صحراوية، إلخ) كما احتضنت مسلمين فرّوا من الأندلس عندما أنقذتهم أساطيل عثمانية  من المذابح الكاثوليكية. المضحك في الأمر عندما تسمع مواطنا ذوي أصول أندلسية أو نصف تركية (كرغلي) يقول متقزّزا « الـبوبلاد فسدوا دزاير! »  أو مخاطبا شخصا قادما من الريف إلى العاصمة: « أيا كابتك ولايتك! ». لو يتبع المرء « منطق » هذا البهلوان ليقول له: « كابتك بلاد أجدادك! »، « ارجع إلى إسبانيا! » ، « ارجع إلى تركيا! » لكن نحن طبعا لا ننادي باتباع هذا « المنطق » المجنون. ما يهمّنا هو أن الجزائر جزائرنا جميعا باختلاف أصولنا أو لون بشرتنا، بمدننا وأريافنا. أمّا للعنصري الجهوي فيمكننا أن نقول له مبتسمين: « الله يسترك سمّعنا سكاتك! » وأن ندعو له بالهداية.

كتب المقال: محمّد وليد قرين

Votre commentaire

Entrez vos coordonnées ci-dessous ou cliquez sur une icône pour vous connecter:

Logo WordPress.com

Vous commentez à l’aide de votre compte WordPress.com. Déconnexion /  Changer )

Image Twitter

Vous commentez à l’aide de votre compte Twitter. Déconnexion /  Changer )

Photo Facebook

Vous commentez à l’aide de votre compte Facebook. Déconnexion /  Changer )

Connexion à %s

%d blogueurs aiment cette page :
search previous next tag category expand menu location phone mail time cart zoom edit close