من أجل إقامة منظومة سياسية واقتصادية تسعى إلى القضاء على الفقر وتجعل من التراحم والتضامن الدائمين قاعدة عامة في المجتمع.
تنبيه: لا يهدف هذا المقال إلى التهجم على « مطاعم الرحمة » وعلى تقديمها وجبات مجانية للفقراء، للمساكين- هذا عمل محمود وإيجابي- وإنما ننتقد في مقالنا هذا الطابع المناسباتي لهذه « الرحمة »، أي وجودها فقط في بعض المناسبات، ويخص هذا المقال شهر رمضان الكريم أنموذجا.
تعوّد المواطن الجزائري، منذ بعضة سنوات مضت، على ظهور « مطاعم الرحمة » في رمضان. وهي مطاعم تقيمها في أغلب الأحيان جمعيات خيرية خاصة أو تابعة للهلال الأحمر الجزائري. وإن استعملنا فعل « تعوّد » فهذا عن قصد. وتكمن المشكلة في هذا التعوّد. هناك من سيقول لنا: « وين راهو المشكل؟ إيه، مطعم الرحمة مليح؟ » ونحن سنرد: « خويا والا اختي، المشكل ما راهوش هنا! » إنّ الأمر في منتهى الخطورة. لماذا؟ بالذات لأنّ هذه الرحمة على المساكين وعلى المعوزين المتجسدة في رمضان في « مطاعم الرحمة » لا نراها إلّا في…شهر رمضان الكريم، أي أن لها طابع مناسباتي بحت. وهنا نوجّه السؤال لأصحاب الجمعيات الخيرية الخاصة أو التابعة للهلال الأحمر الجزائري كما نوجّه السؤال إلى الخواص الذين يخصصون مستودعا أو محلا يملكونه لإطعام الفقراء وعابري السبيل: « يا عباد ربّي، أفو الرحمة تتوقّف بعد رمضان؟! » ، « هل رمضان المبارك هو شهر الرحمة والتراحم والتضامن الوحيد في السنة مع الزوالي المسكين؟! ». أترون أين يكمن الخطر يا خاوتي؟ هذه الرحمة المناسباتية قد تحتوي (بالنسبة لجزء من الجمعيات الخيرية، ليس كلها) على شيء نتن، قذر، عفن وهو عنصر الفرجة. كيف؟ تتمثل هذه الفرجة في نشر على مواقع ما يسمى بـ »التواصل الاجتماعي » صورا تظهر فعاليات هذا « التضامن المناسباتي »: كم من وجبة إفطار قدمتها اليوم الجمعية الخيرية الفلانية »، « في أي مكان تمت إقامة مطعم الرحمة »، « صور تظهر استقبال عابري السبيل »، « سرد لانطباعات وشعور المفطرين »، إلخ…
إنّ إيديولوجيا الفرجة، المناسباتية، تتضمن دائما شيئا من الرياء بالمفهوم الديني، أي شيئا زائفا لا يصدر عن رغبة عفوية طبيعية لمساعدة المحتاج، بما أن هذا الشعور (التضامني مع الزوالي) وليد المناسبات فقط (العيد الصغير، العيد الكبير، سيدي رمضان، على سبيل المثال). فكر الفرجة مرادف لـ »عقلية شوفوني ».
يوجد عدد من « مطاعم الرحمة » تابع للهلال الأحمر الجزائري وتستقبل هذه المطاعم يوميا الزوالية والفقراء على مدار سيدي رمضان المبارك. هذا جميل، ولكن سيكون من الأجمل لو يقيم الهلال الأحمر الجزائري مطاعم الرحمة على مدار السنة، أليس كذلك؟ لأن اخوتنا الفقراء والمعوزين يعانون من الجوع والعطش وسوء التغذية في باقي أيام السنة كذلك، أي أنهم بأمس الحاجة إلى التكفل و المساعدة من قبل جمعيات وهيئات تضامنية رسمية عمومية أو جمعيات خيرية خاصة. بل نذهب أبعد من ذلك ونقول بأنّ من واجب الدولة إقامة سياسة وطنية تكافح الفقر وتسعى إلى القضاء عليه لأنّ الوضع الإنساني لمواطنين الفقراء حرج جدا وهم بحاجة ملحّة إلى الخروج من وضعيتهم المزرية، لا إلى سيساسات تضميدية أو نشاطات إنسانية ظرفية تخفّف عنهم الوضع. لأنّ الفقر ليس حتمية تاريخية، وإنما هو وليد التوزيع الغير العادل للثروة في مجتمعنا، هو وليد الظلم الاجتماعي الناتج عن الثراء الفاحش لأقلية من الرأسماليين وغياب لزوم الضريبة على الثروة على هذه الأقلية..
إليكم الآن ما قاله رئيس جمعية خيرية جزائرية، مقرها في وهران، فتحت مطعم رحمة:
“لقد حوّلت مقرّ الجمعية خلال رمضان إلى مطعم للرحمة لأقدم وجبات الإفطار للفقراء وعابري السبيل مجانا”.
وتابع ذات الرئيس قائلا: “رمضان شهر التراحم لذلك لا بد لنا أن نتضامن مع بعضنا البعض، ونخفف وطأة الحاجة لدى إخواننا المعوزين”.
الله يبارك على السي خونا! إذن التراحم والتضامن مرتبطان خصّيصا بشهر رمضان؟ جميل والله جميل! وبعد رمضان، يا سيد رئيس الجمعية، ماذا هناك؟ ألا نتراحم؟! ألا نتضامن؟! ألا نشد أزر بعضنا البعض؟! إن حللنا قولك جيدا فهذا يعني أنّ بعد رمضان المبارك تأخذ عقلية طاق على من طاق (أي نفسي نفسي، عقلية الفردانية والأنانية) مكان التراحم ونأكل بعضنا البعض، والا كيفاش؟!
هذا التصريح أدلى به رئيس الجمعية الخيرية المستقرة في وهران للإذاعة والتلفزة التركية الناطقة بالعربية. ولا نخشى المبالغة إن قلنا إنّ الكثير من مديري مطاعم الرحمة لديه هذا التفكير ويقول لك »شهر رمضان شهر التراحم والتضامن » كأنها قاعدة عامة وكأنّ باقي شهور السنة هي شهور لا تجب فيها الرحمة والتضامن مع مواطنينا المساكين والفقراء والمحتاجين. الخطير أن هذا الرأي قد غزى عقول الكثير من المواطنين في بلدنا وأصبح يبدو مسلّمة، شيئا مفروغا منه. من أين جاء هؤلاء بمثل هذا الرأي المعوج؟ أكيد أنهم إن تذرعوا بالدين فسوف نقاطع قولهم ونؤكد أنّنا لا نجد لا في القرآن الكريم ولا في السنة النبوية دعوة إلى التراحم والتضامن في المناسبات الدينية فقط.
لنرجع إلى الطابع المناسباتي المقزّز لـ »مطعم الرحمة ». نلاحظ أنّ هذه المناسباتية موجودة حتى عند الإتحاد العام للعمّال الجزائريين (لا نرى مطعم رحمة يفتحه الاتحاد إلّا في رمضان) أو عند خواص يخصّصون مستودعاتهم لاطعام المساكين أو عابري السبيل.
تتعدى هذه الرحمة الظرفية الإطعام فنلاحظ أن شهر رمضان المبارك صار مناسبة لإشهار الرحمة في الفضاء العام فنشاهد مثلا أنّ ثمة أشخاص يكثرون من التصدّق علنا في رمضان على المتسوّلين في الشارع ويحرصون على أن يراهم الناس، في حين أنهم عادة لا يحنّون على المحتاجين.
من جهة أخرى، يتعدّى هذا الطابع المناسباتي الرحمة في رمضان إذ صار هذا الشهر المبارك مناسبة لإشهار مظاهر التقوى والتديّن بشكل مبالغ فيه فنرى أشخاصا في السيارات يرفعون صوت الراديو الذي تنبعث منه تلاوة آيات من القرآن الكريم بينما تجد هذه الفئة تستمع إلى الموسيقى بشكل صاغب عدا أيام رمضان. إنتقادنا يستهدف هنا الطابع الفرجوي لفعل الاستماع إلى القرآن.
الفرجة هي كل ما يدخل في فكر « شوفوني »، هي كل ما يلمع، يبرق، يثير انتباه الناس بشدة في الفضاء العام. الفرجة زيف، « هفّ » لأنّ من يمارسها، في سياق التضامن مع المساكين، لا يمارسها بشكل عفوي، في سبيل التضامن البحت، بل لكي يراه الناس، لكي يتحدّث عنه الناس بالخير، لكي يكسب طيبتهم . ما يزعج في ظاهرة الرحمة المناسباتية هي أنّ التصدق والشفقة على المسكين أو مساعدته أصبحا عند فئة كبيرة من المواطنين في المدن الكبرى خاصة وسيلة « للربح مع ربّي سبحانه »، أي بعبارة أخرى لربح « أكبر عدد ممكن من الحسنات » لـ »كسب » رضاء الله سبحانه وتعالى، لا لأن هذه الفئة من المواطنين تريد حقّا وعن قناعة تقديم يد المساعدة إلى « الزوالي » فتفكيرها تفكير عابد المال أو رجل الأعمال الرأسمالي الذي يسعى وراء جني وكنز أكبر عدد من الأرباح والأموال على ظهر العمال، الربح هنا « ربح روحاني » عوض المادي ويتجسد هذا الزيف في تصرفهم عندما تسمعون يقولون مثلا: « نحضر جنازة فلان باش نربح الحسنات » أو « نعاون فلان باش نربح الحسنات » لا حبا عفويا في الترحم و في تقديم المساعدة. يمكننا أن نسمّي هذا التفكير بالدارجة « تبزنيس بالدين« ، والتبزنيس (المتاجرة) هي قاعدة عامة في المنظومة الرأسمالية المقرفة التي تتاجر بكل شيء، حتى بالمشاعر وبالعلاقات بين الناس داخل المجتمع (الصداقة، الحب، التعاون، إلخ)!
كتب المقال (الجزء الأوّل): محمّد وليد قرين
المصادر:
- الخطيب زاهر، الفهم الثوري للدين والماركسية، دار الفارابي، بيروت، الطبعة الرابعة 2015
- أمين سمير، امبراطورية الفوضى، دار الفارابي والمؤسسة الوطنية للنشهر والإشهار، بيروت والجزائر، طبعة جديدة، 2003
- ماركس كارل، رأس المال، نقد الاقتصاد السياسي، المجلد الأول، دار الفارابي، 2013
- https://drive.google.com/file/d/0B1yR5I8STd5_R3hDZUZIYmZBWTA/view
- http://www.trtarabic.tv/%D9%85%D8%B7%D8%A7%D8%B9%D9%85-%D8%A7%D9%84%D8%B1%D9%91%D8%AD%D9%85%D8%A9-%D9%85%D9%84%D8%A7%D8%B0-%D8%A7%D9%84%D9%81%D9%82%D8%B1%D8%A7%D8%A1-%D9%88%D8%B9%D8%A7%D8%A8%D8%B1%D9%8A-%D8%A7%D9%84/