1
في ماض ليس ببعيد (فترة السبعينات ومنتصف الثمانينات) لم يكن الزواج موضوع قلق، « كوشمار » بالنسبة لأغلبية الشباب الجزائري، إذ إنّ تكاليف العرس لم تكن مكلّفة وشروط الزواج لم تكن عامة تشبه مساومة بالبنت فكانت تحضيرات وفعاليات الزفاف متعارف عليها: في المدن، العرس عادة في حي الزوج بحضور الأقارب وأولاد الحومة ومساعدتهم، تحضير وليمة العشاء وحلوى العرس من قبل الخالات والعمّات (نساء العائلة بصفة عامة). كان حفل الزفاف يجري في جو شعبي عفوي ليس فيه أدنى أثر من الإصطناعية والحمد لله أننا لا نزال نرى أحيانا هذا التقليد في بعض الأحياء الشعبية. أي أنّ الشغل الشاغل للزوجين ولعائلتيهما كان العيش في الهناء والتفاهم، ضمان مسكن محترم وضمان الزوج لعمل قار (خدمة صطابل) وكسب المال كوسيلة لا كغاية في حد ذاتها، على عكس الفكر الجديد الذي يسود حاليا في مدن الوطن الكبرى والذي يدفع بالكثير من الشبان المنحدرين من الطبقة المتسوطة إلى إقامة عرس فخم لا ينسى » في فندق معروف عنده « بريستيج » أو في قاعة حفلات « عندها اسم » وطلب حلوى العرس من « تريتور » مشهور وهذا يكلّف طبعا الملايين من السنتيمات ويجبر العريس وعائلته إلى الاستلاف والاستدانة لأنهم « ما راهمش لاحقين » على مستوى الثروة المالية. وتلاحظ هذه الظاهرة في بلدان أخرى كذلك (طاجيكستان مثلا) قد يقول لهم ناصح: « كل واحد يدير عرس قيسو وعلى حساب جيبو » ولكن هذه النصيحة لن تغير شيئا ولن تقنعهم بضرورة الاقتصاد في تكاليف العرس لأن منطق المنافسة والتفاخر بالممتلكات المادية والانفاق والمظهر أصبح للأسف يطغى على تفكير جزء كبير من الناس في مدن الوطن الكبرى. نرى اليوم الرأسماليين وأصحاب النفوذ المالي يتفاخرون بملايينهم فنراهم يمرون بألبستهم وساعاتهم وهواتفهم وسياراتهم الفخمة ،من دون حياء، من أمام شبان أو ناس زوالية أو متوسطي الحال فيولّد كل هذا ازديادا في الشعور بالحرمان، وقد يولّد أيضا غيرة أو حسدا وهذا كله يؤثر سلبا على وحدة مجتمعنا لأنّ التفاوت الطبقي الإجتماعي الفاحش والمتزايد (بين الميليونير أو الميلياردير واللي عنده كمية) ينتج الكثير من الكراهية المتبادلة،. لماذا الشعور بالحرمان؟ لأن المعيار لـ »ربح » القدر » و »تقدير » الكثيرين في المدن الكبرى أصبح يقاس عامة بـ »الدراهم »، بالثروة المالية، بـ »كم تصرف من المال عند التسوق »، بـ »ماركة سيارتك، هل هي فخمة أم لا؟ »بـ »وجهة عطلتك ». فيطمح الزوالي أو متوسط الحال إلى أن يصبح ميليونيرا أو ميسور الحال على الأقل لـ »نيل » نسبة من الاحترام في المجتمع
إنّ هذا الهوس بالمظاهر والانبهار بـ »الحديدة »، « المادة » يمس العديد من الرجال والنساء، شبانا وشابات على حد سواء فتجدهم يحترمون من لديه « كروسة كلاس » و »يلبس غير الماركة » مثلا، بغض النظر عن طبعه وأخلاقه.
ومن أين أتى هذا المنطق؟ من أنتجه؟
الجواب: أنتجه فكر المنظومة الإقتصادية الحالية في وطننا، يا خاوتي! هذه المنظومة الخاضعة لكبار البنوك الأجنبية والمحلية الخاصة ولنفوذ الشركات متعددة الجنسيات ولسيطرة الرأسماليين المحليين التي تنخر ببطء عظام مجتمعنا والتي تقدّس وتعبد الرب « الدراهم » وتقلّل من قيمة العلم والمبادئ والخصال الحميدة كطيبة القلب، التعاون والتضامن من دون مصلحة أو حساب، ، الوفاء، الرأفة بالمسكين والمحتاج، الحس الوطني، إلخ…
ولكن…لكن كيف انتشرت عبادة الدينار في مدننا الكبرى اليوم؟ إنّ الحياة الإقتصادية للوطن تسير حاليا ومنذ بداية القرن وفقا لمبادئ وقواعد الرأسمالية، وتأمر أخلاقيات هذه المنظومة بجمع الأموال بشتى الطرق بالستعمال الخدعة والإحتيال واستغلال العامل في مكان الشغل أو في المعمل (امتصاص دمه ووقته وعرق جبينه أي منحه شهرية يكون مقابلها بالدراهم دون الجهد المبذول وحجم الساعات في العمل) ونرى أنّ أخلاقيات الرأسمالية هي من تقف وراء انتشار الرشوة والفساد في مجتمعنا فتجعل الإنسان عبدا للدينار فيحتقر كسبه بطريقة حلال.
يكتب تشي غيفارا في كتابه « الإشتراكية والرجل الجديد » في هذا السياق ما يلي: » إنّ القوانين العمياء للرأسمالية، التي لا يراها عامة الناس، تؤثر على الفرد من دون أن يشعر بذلك » (ترجمتنا)
2
إن نظرنا إلى موضوع الزواج من زاوية الدين فسنجد أنّ الإسلام يدعو لتسهيل شروط الزواج، كما قال الرسول محمد صلّى الله عليه وسلّم: « إذا جاءكم مَن ترضون دينه وخُلقه فزوِّجوه، إلّا تفعلوا تكن فتنة في الأرض وفساد عريض » (رواه أبا هريرة). وفي إطار مجتمع يشغل فيه الدين منصبا رئيسيا في الحياة اليومية كما هو الحال في مجتمعنا، يصبح تعقيد شروط الزواج (كالمغالاة في المهر مثلا*) أحد العوامل التي تشكل عقبة كبيرة على ذوي المدخول البسيط (25000/30000 دينار جزائري شهريا) من الرجال وموضوع قلق وإحساس بالحرمان بالنسبة لهم، هذا من دون أن ننسى أن الحصول على مسكن (أزمة سكن خانقة) أو كراء شقة صغيرة وتأثيثها مكلّف أصلا لزوج جديد في المدن الكبرى من الوطن. ما العمل إذن؟! « وهو وعلاش يتزوّج إذا ما راهوش لا باس به؟! ما يتزوجش وخلاص! » كما يقترحه بعض « الأذكياء »، لكنهم يجهلون أن عرف الزواج لا يزال مقدّسا لدى غالبية الشباب الجزائري ولا يتصورون حياة من دون زواج، على عكس الشاب في مجتمع أوروبي غربي حيث فقد الزواج قيمته ورمزيته الدينية (في فرنسا وبريطانيا وإسبانيا مثلا) بفعل الفراغ الروحي الرهيب السائد.
ما نعتبره خطيرا هو تسليع الكثيرين من الأولياء (المتوسطي الحال) لبنتهم فيرفضون الشاب الذي تحبه ويحبها لأنه ليس ثريا أو « لا باس به » أو « لا ينتمي إلى عائلة معروفة » أو « لا يملك سيارة كْلاسْ » ويعرضون بنتهم على الرجل الذي سيضع عليها أكبرمبلغ في المهر. بالإضافة إلى تخلي العديد من الفتيات (من عائلة متوسطة الحال عامة) عن صديقها ووضع نهاية لعلاقتها به بعد مدة أو سنوات من التعارف ومن ضرب المواعيد لنفس الأسباب المذكورة سابقا، رغم أن الشاب ينوي في النهاية الزواج من صديقته (وهنا نخص بالذكر الشاب الجدي الناضج)
إنّ حب المال كوسيلة لا كغاية مشروع عند الإنسان وليس مشكلة. المشكلة والكارثة في جعل المال « إلها »، في حين أنّ لا إله إلا الله فـ »ينبغي أن ندرك طبيعة العلاقة بين الإنسان والثروة. لقد حدّد القرآن الكريم هده العلاقة بصورة واضحة ودقيقة فجعلها علاقة استخلاف ولم يجعلها علاقة سيطرة وتملك مطلق » (عبد العزيز الكحلوت) فيقول سبحانه وتعالى: « آمنوا بالله ورسوله وأنفقوا ممّا جعلكم مستخلفين فيه فالذين آمنوا منكم وأنفقوا لهم أجر كبير » (سورة الحديد، الآية 7)
يقول الرسول صلّى الله عليه وسلّم: « تعس عبد الدينار، تعس عبد الدرهم » (رواه البخاري)
لا خير في منظومة اقتصادية كالرأسمالية تنتج تفاوتا طبقيا اجتماعيا فاحشا وتحقق الرفاهية والرخاء الاجتماعي لقلة قليلة من الناس على حساب الأغلبية وتسلّع الصداقة وتجعل من المصلحة المادية أساس العلاقات الاجتماعية. الخير في ترك الرأسمالية تركا لا رجعة فيه والبداية بإعادة بناء ما تم هدمه من مصانع وطنية عمومية كانت تنتج جلدا ومنسوجات وأحذية محلية ذات جودة والعودة إلى مبادئ الثورة الزراعية لتحقيق الإكتفاء الغذائي. الخير في إنقاذ المصالح العمومية (الصحة، التعليم مثلا) وتطويرها ورفع مستواها. الخير في رأينا في انتهاج اشتراكية** جزائرية تخدم مصالح عامة الشعب كما جاءت بها قيم 1 نوفمبر 1954 (ونادى بها القائد الثوري الشهيد العربي بن مهيدي في مقاله على العدد الثاني من صحيقة المجاهد في جويلية 1956) حتى تتحقق الرفاهية ويتحقق الرخاء الاجتماعي لعامة المواطنين . وعليه فإنّ الاشتراكية في قالب وطني محض (متشبعة بقيم الإسلام ومبادئه في مفهومه التحرري) هي ركيزة متينة وبديل قوي لتشييد جمهورية ديمقراطية واجتماعية حقة.
كتب المقال: محمّد وليد قرين
المراجع:
« الخطيب زاهر، الفهم الثوري للدّين والماركسية، دار الفارابي، بيروت، الطبعة الرابعة، 2015″
« الكحلوت عبد العزيز، الإسلام ثورة مستمرة، المنشأة الشعبية للنشر والتوزيع والإعلان والمطابع، ليبيا، الطبعة الأولى، 1981″
Debord Guy, La société du Spectacle, Folio, Paris, 1996.
Guevara Ernesto (Che), El Socialismo y el hombre en Cuba, Siglo XXI, España/Argentina, 1977
https://www.monde-diplomatique.fr/2017/08/CLEUZIOU/57797
https://www.theguardian.com/lifeandstyle/2014/jul/25/marriage-young-europeans-austerity
*تجدر الإشارة في هذا السياق أن العديد من الشبان في مجتمعنا يقدرون « غلاء المهر » مقابل إمكانية الزواج بالفتاة، هذا دليل على أن « شأنها عالي » في رأيهم، فكأنهم يتحدثون عن سلعة. ومن جهة أخرى فهذا النوع من الشبان يحتقر ويعيب الفتاة، التي تزوج بها مقابل مهر متواضع، عندما ينشب شجار بينه وبينها مثلا ، لأن « الحصول عليها » كان « رخيصا » في رأيه وهذا ما يعتبره تبريرا شرعيا لسوء معاملته لها في الحياة اليومية.
- **أمّا عن مفهوم الاشتراكية فهذا يستوجب مقالات ودروس مطوّلة في الإقتصاد السياسي لا يسمح لنا فضاء المقال أعلاه بشرحه والخضوع في تفسير آلياته، فنرجو المعذرة. لكن ندعو القراء الكرام، لمعرفة مضمون المنظومة الاشتراكية، إلى البداية بالإطلاع على كتاب الاقتصادي وعالم السياسة سمير أمين: « اشتراكية القرن، تأملات حول اشتراكية القرن 21 « .
الرابط للإطلاع على كتاب سمير أمين مجّانا: https://drive.google.com/file/d/0B1yR5I8STd5_aFk5Q2tURnlzbFU/view