إنّ التحرر الوطني من الامبريالية يساوي التحرر الاجتماعي من الاستغلال الرأسمالي

كتب محمود الأطرش* في مذكراته، متحدثا عن ثورة أكتوبر الاشتراكية في روسيا سنة 1917 فيقول: « فهي دشنت عهدين في آن واحد: عهد التحرر من سيطرة الإمبرياليين واستعبادهم، على أساس حق الشعوب في تقرير مصيرها بنفسها الذي نادى به لينين والحكومة السوفياتية، وتحقّق بصورة عملية في المستعمرات القيصرية القديمة، وعهد التخلّص من سيطرة الاستغلال الإقطاعي والرأسمالي، أي من نير الاستغلال الإنسان للإنسان… » وفي هذا السياق تعتبر حرب التحرير الوطنية الجزائرية،حروب التحرير الوطنية في غينيا بيساو، في المزمبيق وفي أنغولا، حرب التحرير الوطنية الفيتنامية وحرب التحرير الوطنية الكورية (كوريا الشمالية) من بين أعظم الكفاحات المسلحة التحررية ، في القرن العشرين وفي التاريخ، ضد الامبريالية وألحقت بالانظمة الاستعمارية الفرنسية والبرتغالية واليابانية هزيمة شنعاء في أفريقيا وفي آسيا.

من جهة أخرى مثل الكفاح التحرري الوطني المسلح الذي خاضه الشعب الفيتنامي والشعب الجزائري قدوة كبيرة للحركات الثورية الاستقلالية في كل من آسيا وأفريقيا في كفاحها من أجل التحرر من الاستعمار ومن الامبريالية، وهما نظامان أنتجتهما الرأسمالية. بالإضافة إلى ذلك، ساهم انتصار ثورة أكتوبر 1917 في روسيا في نشر أفكار الاشتراكية الثورية في العالم بأسره وكوّنت هذه الأفكار أدوات وأسلحة نظرية هامة استعان بها العديد من القادة الإستقلاليين الثوريين، في أفريقيا وفي آسيا، لبلورة استراتيجية الكفاح المسلح في سبيل تحقيق التحرر الوطني من النظام الاستعماري برمته. ليس من باب الصدفة إذًا أن يكتب القائد الوطني الشهيد العربي بن مهيدي، في مقاله « الأهداف الأساسية لثورتنا »، في جويلية 1956: إنّ الشعب الجزائري يعود إلى حمل السلاح من جديد لطرد المحتل الامبريالي، لكي يهب نفسه جمهورية ديمقراطية واجتماعية كشكل للحكم، من أجل نظام اشتراكي يتضمن على الخصوص إصلاحات زراعية عميقة وثورية، من أجل حياة معنوية ومادية لائقة،… » كان القائد الشهيد بن مهيدي ، بالإضافة إلى كونه أحد مؤسسي جبهة التحرير الوطني، أحد أكبر المنظرين الثوريين للحركة الوطنية المناهضة للإستعمار. لا يجب أيضا أن ننسى بالذكر القائد الوطني المجاهد عبد القادر حاج علي**، أحد أول مؤسسي نجم شمال أفريقيا في سنة 1926، الذي كان مثقّفا ثوريا متشبّعا بالتربية الاسلامية وبالفلسلفة السياسية الاشتراكية.

يتجلّى لنا في السطور التي اقتبسناها من مقال بن مهيدي أنّ كفاح التحرر الوطني ارتبط ارتباطا وثيقا بالكفاح الطبقي وأن أحد الأهداف الأساسية لثورة الفاتح نوفمبر 1954 كان يرمي إلى إلغاء نمط الانتاج الاستعماري (الرأسمالي) الذي يتم فيه استغلال الإنسان للإنسان وينتج البؤس لأغلبية الشعب بينما تحتكر أقلية غنية الثروة الاجتماعية. فلا عجب إذا أنّ الدولة الوطنية انتهجت الاشتراكية مباشرة بعد الاستقلال (من 1962 حتى سنة 1978) وأممت الثروات والموارد الطبيعية الوطنية وجعلت الخدمات الصحية والتعليم في منتاول عامة المواطنين، لا حكرا على أصحاب الملايين . لماذا تحدثت عن الطابع الطبقي لثورة التحرير الوطنية؟! لأن القوى المحركة لها كانت جماهير الفلاحين والعمال الجزائريين المضطهدين والمستعبدين (الطبقة المُسْتغَلة) التي أخذت السلاح وانتفضت على الطبقة المُسْتغِلة المتكونة من الكولون الفرنسيين الاستعماريين من ملاك للمصانع وملاك للأراضي إلى جانب خدمهم المحليين (خونة الوطن) من باشاغوات وقايد وعساكرهم وموظّفيهم. لم يكن هدف المجاهدين، وأغلبهم كان ينحدر من المناطق الريفية، طرد المستعمر الأجنبي فقط أو أخذ مكانه للحصول على امتيازات مادية، وإنما كان هدفهم استعادة أراضي أجدادهم المصادرة وتدمير هياكل النظام الاستعماري واستبداله بنظام اجتماعي يلغي وجود الخماس والأسياد والامتيازات الطبقية والظلم الطبقي. وإنّ مقال المجاهد الشهيد فرانز فانون « ثورة ديمقراطية »، الصادر على جريدة المجاهد في نوفمبر 1957، يوضح بشكل رائع الطابع الطبقي التحرري لثورة 1 نوفمبر 1954. يكتب في هذا الصدد الشهيد مهدي عامل**، المناضل والمفكر الثوري اللبناني: « فتحدد الصراع الطبقي بالعلاقة الكولونيالية يعطيه طابع الصراع الوطني ويحدد حركته كحركة تحرر وطني من الامبريالية. » (العلاقة الكولونيالية وآلية التحرر الوطني، 1-الصراع الطبقي والصراع الوطني، في كتاب مقدمات نظرية لدراسة أثر الفكر الاشتراكي في حركة التحرر الوطني، دار الفارابي، بيروت)

كان مؤسسو نجم شمال أفريقيا ومؤسسو جبهة التحرير الوطنية قد أدركوا تمام الادراك أنّه من المستحيل تحقيق الاستقلال الوطني من دون إلغاء نمط الانتاج الرأسمالي ومحاربة فكره ومبادئه. كانوا يدركون تمام الادراك أن ضمان العدالة الاجتماعية بين جميع المواطنين وبناء اقتصاد وطني مستقل، فعلي وقوي لا يتحقق إلّا بطرد الشركات المتعددة الجنسية والبنوك الأجنبية من البلد وتأسيس مؤسسات ومصانع عمومية تسعى إلى تحقيق الاكتفاء الذاتي المحلي في انتاج الغذاء والملابس والأدوية ومعدات الطب ووسائل النقل وفي انتاج مختلف الأغراض الأساسية اليومية التي يحتاجها ويستعملها المواطن، ضف إلى ذلك تأسيس مستشفيات عمومية ومؤسسات تربوية وجامعات عمومية تضمن التداوي الجيد واكتساب العلم لجميع المواطنين، من دون تمييز طبقي (خصخصة هذه المصالح الاجتماعية جزء من هذا التمييز). إنّ حركة التحرر الوطني من الامبريالية (التي هي أعلى مراحل الرأسمالية كما شخّصها لينين) لا يمكن فصلها عن حركة الصراع الطبقي ويمثل انتهاج الاشتراكية**** منطقه الضروري.

كتب النص: محمّد وليد قرين

الصورة: صورة مجاهد في جيش التحرير الوطني الجزائري، التقطها المصوّر الألماني ديرك ألفرمان (1937-2013). مصدر الصورة: كتاب

Dirk Alvermann, Algerien, Verlag Rütten & Loening, Ost-Berlin, Deutsche Demokratische Republik (DDR), 1960

كان ديرك ألفرمان مصورا مناضلا ضد الاستعمار والنظام الرأسمالي ومؤيدا لحركات التحرر الوطنية الأفريقية الآسيوية. قضى 3 سنوات في الجبال (1957-1960) رفقة المجاهدين أثناء حرب التحرير الوطنية. صدر كتابه الفوتغرافي « الجزائر » سنة 1960 ببرلين الشرقية، بجمهورية ألمانيا الديمقراطية (ألمانيا الشرقية سابقا)

1024;_dirk_alvermann_–_algerien_-_l_algérie
صورة من كتاب ديرك ألفرمان « الجزائر ». المصدر:  http://josefchladek.com/book/dirk_alvermann_-_algerien_-_lalgerie#image-1
dirk_alvermann_–_algerien_-_l_algérie
صورة من كتاب ديرك ألفرمان « الجزائر ». المصدر: http://josefchladek.com/book/dirk_alvermann_-_algerien_-_lalgerie#image-1

*محمود الأطرش (1903-1981) مجاهد ومفكر ثوري فلسطيني جزائري.

**عبد القادر حاج علي (1883-1949)، أحد رواد الحركة الثورية الوطنية الجزائرية. هو من كتب بيان نجم شمال أفريقيا سنة 1927 الذي يطالب فيه بضرورة استقلال الجزائر عن فرنسا والتحرر من الامبريالية. المصدر: كتاب

Abdellah Righi, Hadj Ali Abdelkader, pionnier du mouvement révolutionnaire algérien, Casbah, Alger, 2006.

***مهدي عامل (1936-1987)، مفكّر ومناضل ثوري لبناني

« ****إنّ الاشتراكية ليست دينا، وإنّما هي سلاح نظري واستراتيجي يأخذ بعين الاعتبار واقع كل شعب، ويستلزم رفض كل تعصب مذهبي أو تزمّت فكري. »
« إنّ الاشتراكية في الجزائر لا تصدر عن أية فلسفة مادية. ولا ترتبط بأي مفهوم متحجّر غريب عن عبقريتنا الوطنية، وإنّ بناء الاشتراكية يتماشى مع ازدهار القيم الاسلامية التي تشكّل أحد العناصر الأساسية المكوّنة لشخصية الشعب الجزائري. » فقرتان مقتطفتان من الميثاق الوطني (1976)

Votre commentaire

Entrez vos coordonnées ci-dessous ou cliquez sur une icône pour vous connecter:

Logo WordPress.com

Vous commentez à l’aide de votre compte WordPress.com. Déconnexion /  Changer )

Image Twitter

Vous commentez à l’aide de votre compte Twitter. Déconnexion /  Changer )

Photo Facebook

Vous commentez à l’aide de votre compte Facebook. Déconnexion /  Changer )

Connexion à %s

%d blogueurs aiment cette page :
search previous next tag category expand menu location phone mail time cart zoom edit close