يكبر التلميذ الجزائري ويصبح شابا وهو يجهل كبار أدباءنا وشعراءنا، أو قل أنه لا يعرف منهمم سوى شاعر الثورة التحريرية مفدي زكرياء ومحمد ديب ومولود فرعون (في أفضل الحالات) حتى يحسب التلميذ أننا شعب يفتقر إلى أدباء من طينة الكبار وأننا ضعفاء في الثقافة وفي الأدب. يكبر التلميذ الجزائري تحت تأثير أدباء أجانب (من المشرق ومن الغرب) وهو تأثير تفرضه عليه برامج المنظومة التربوية في بلدنا. يكبر التلميذ الجزائري ويصبح شابا بعدما تحتّم عليه تجرّع أدب أجنبي وسط تغييب شبه كلي للأدب الوطني في الكتب المدرسية.
لتدعيم هذا التأكيد، سأعطي لكم مثالا عن عملي كأستاذ جامعي: ذكرت مرة أمام طلبتي في القسم اسمي بن هدّوقة والطاهر وطّار وسألتهم إن كانوا قد قرأوا كتابا لهما والجواب كان أن أغلبية طلبتي كانوا يجهلون حتى أنّ وطار وبن هدوقة كاتبان وأنهما جزائريان. وفي مناسبة أخرى قدّمت لطلبتي في فوج آخر نصا كتبه كاتب ياسين ولما سألتهم عن هوية الأديب قوبلت بعلامات استفهام كبيرة قرأتها على وجوه أغلبية طلبتي إذ أنهم يجهلون من هو وكانوا قد سمعوا به لأول مرة. بعد ذلك قدمت لهم نبذة عن حياة الأدباء الثلاثة وشرحت لهم أهميتهم في الأدب الوطني. أتحدث هنا عن طلبة في الماستر وعشت نفس هذه التجربة مع أكثر من فوجين. طلبتي إذن كانوا يجهلون أن بن هدوقة ووطار رحمهما الله هما من مؤسسي الرواية الجزائرية الحديثة المكتوبة بالعربية وأنهما كاتبان ثوريان وأن كاتب ياسين رحمه الله من بين المثقفين الجزائريين الذين ناضلوا وجاهدوا بالقلم ضد الثقافة الاستعمارية قبل وأثناء حرب التحرير الوطني بالإضافة إلى أن ياسين ينتمي إلى الجيل المؤسس للرواية الجزائرية الحديثة المكتوبة بالفرنسية.
لا ألوم عدم سماع طلبتي بأسماءنا الأدبية الكبيرة، وإنما ألوم محتوى كتب المطالعة بالعربية وبالفرنسية المعتمدة من قبل المنظومة التربوية في بلدنا. وسأبين في هذا النص لماذا: تحتوي كتب المطالعة للطور المتوسط والثانوي بغزارة على مقتطفات وأعمال كتّاب أجانب مشهورين في بلاد المشرق وأوروبا الغربية (فرنسا بالدرجة الأولى) من أمثال ميخائيل نعيمة، جبران خليل جبران، المنفلوطي، طه حسين، أحمد شوقي، ألبير كامي، فولتير وفيكتور هيغو.
من جهة أخرى يخصّص برنامج كتب المطالعة صفحات معدودات فقط لأدباء وطنيين وهم مفدي زكرياء، محمد العيد آل خليفة ومحمد ديب وكأنّما لم يتم إعداد البرنامج للتلميذ الجزائري، بل للتلميذ في بلد من بلدان المشرق (بالنسبة لكتب اللغة العربية) أو لتلميذ فرنسي (في ما يخص كتب اللغة الفرنسية). وبعبارة أخرى، كأنما تم إعداد برنامج المنظومة التربوية الوطنية في بلد من بلدان المشرق أو في فرنسا (فيما يخص كتب المطالعة بالعربية والفرنسية بالنسبة للطور المتوسط والثانوي).
يتشبّع الطفل التركي في المدرسة، أوّلا وقبل كل شيء، بأدبه الوطني ويستمد إلهامه منه قبل أن يكتشف أدب الشعوب الأخرى. لا يوجد طالب تركي لا يعرف محمّد عاكف إرصوي، ناظم حكمت (في الشعر) سعيد فائق وصباح الدين علي (في القصة) ويمكننا قول نفس الشيء عن الطفل الإيطالي، الألماني أو الأرجنتيني مثلا فمن الطبيعي في إيطاليا وألمانيا والأرجنتين أن يعرف التلميذ أسماء دانتي ودانونزيو وفيرغا ومانزوني (أدباء كلاسيكيين إيطاليين)، غوته، فون شيلر، توماس مان، سوسكيند والإخوة غريم (كلاسيكيات الأدب الألماني)، خوليو كورتاثار، بورخيس، سابتو، وأدولفو بيوي كاسارس (كلاسيكيات الأدب الأرجنتيني). أي أن الغذاء الثقافي للأطفال في تركيا، إيطاليا، ألمانيا، والأرجنتين يضرب جذوره في أرض الوطن الأم وفي بيئتهم الاجتماعية.
النتيجة الحتمية للتغييب الشبه كلي لأسماء كاملة وكبيرة من أدبنا الوطني في برنامج المنظومة التربوية هي أنّ التلميذ الجزائري يكبر تحت تأثير أدب أجنبي أنتج في الخارج، في مجتمع لا ننتمي إليه، في بيئة غير بيئتنا الاجتماعية الثقافية. من غير الطبيعي أن ينتقل التلميذ إلى الجامعة وهو يجهل أننا شعب خرج من رحمه أدباء وشعراء ومفكرين كبار كمولود معمري، مالك حدّاد، بشير حاج علي، جمال عمراني، الهادي فليسي، عمّار بلحسن، مصطفى الأشرف، محند الشريف ساحلي. محتوى برنامج المنظومة التربوية في مجال الأدب هو محتوى غير وطني يمجّد الأجانب والثقافات الأجنبية ويعطي الأسبقية والأولوية للأدبين الأجنبيين المشرقي والغربي (الفرنسي في أغلب الأحيان) على حساب الأدب الوطني الذي يكاد يمر عليه مرور الكرام، وهذا الأمر غير مقبول.
النتيجة الحتمية للتغييب الشبه كلي لأسماء كاملة وكبيرة من أدبنا الوطني في برنامج المنظومة التربوية هي صناعة عقدة نقص ثقافية تجاه المشرق وأوروبا الغربية لدى فئة من الطلبة في بلدنا وإعجابهم بقراءة أدباء أجانب (مشارقة، فرنسيون وأمريكان في الغالب) بينما يكادون يهملون الأدب الوطني، وإن قرأوا لكتاب جزائريين، فغالبا ما تكون أعمالهم مطبوعة ومشهورة في الخارج. أي أن هذه الفئة من القراء لا يعترفون إلا بالعمل الأدبي الجزائري المعترف به والممدوح من قبل صحف ومجلات وقراء أجانب، وفقا لمنطقهم: « إن طُبع عملك في الخارج وإن مدحك الأجانب، فهذا يعني حتما أنك كاتب جيّد ». أي أنّ هذه الفئة من القرّاء ينظرون إلى الانتاج الأدبي الوطني بعيون أجنبية والرواج الذي تلقاه أعمال أحلام مستغانمي (بالعربية) وياسمينة خضرا (بالفرنسية) أمثلة على ما قلناه للتو في هذه الفقرة.
هل التلميذ في لبنان، مصر أو في دول الخليج مثلا يطّلع في كتبه المدرسية على أدباءنا أكثر من من إطلاعه على أدباء بلده؟! وهل المنظومة التربوية الفرنسية تملأ كتب اللغة الفرنسية بأسماء كتّابنا وتهمل الأدباء الفرنسيين؟! طبعا لا وألف مرة لا. إلّا أن إهمال المسرحيين والروائيين والقصاصين والشعراء الوطنيين في برنامج كتب المطالعة بالعربية وبالفرنسية لا يحدث إلا في بلدنا وفي بلدان أخرى من قارتنا الإفريقية (أنظر كتاب الأديب الكيني نغوغي واثينوغو Ngugi wa Thiong’o, Decolonising the Mind) وهذا غير معقول.
كلّ هذا الإهمال لمفركرينا ولأدباءنا الوطنيين (الثوريين خاصة) يصنع التبعية الفكرية ويخدم الاستعمار الثقافي وهو أمر غير مقبول. كل هذا الإهمال هو عبارة عن إهانة صارخة لثقافتنا الوطنية.
هذا التغييب الشبه كلي والإهمال لأدبنا وفكرنا الوطنيين الثوريين في الكتب المدرسية يندرجان في إطار سياسة متعمّدة انتهجتها السلطات الرسمية بقيادة الرئيس السابق بوتفليقة وتهدف إلى خنق الثقافة الوطنية وتحويل مجتمعنا إلى مجتمع تابع ثقافيا للغرب (فرنسا بالدرجة الأولى) وللشرق الأوسط من خلال البرنامج غير الوطني للمنظومة التربوية. ويمكن تفسير هذه السياسة المعادية للثقافة الوطنية بحكم أن السلطة المسيطِرة خدمت مدة 20 سنة مصالح الرأسمال الأجنبي (مثلا تشجيع الاستيراد المفرط والسماح لشركات متعددة الجنسيات بفتح مكاتب ووكالات وإقامة مصانع في بلدنا، وتفضيل السلطة المنتجات المستوردة وخنق وتخريب قطاع الانتاج الوطني العمومي، غلق مؤسسات عمومية وتسريح العمّال) حتى حوّلت بلدنا إلى شبه مستعمرة فرنسية اقتصاديا، وهذه النتيجة كانت حتمية بحكم أن الطبقة المسيطِرة، المتكونة من أصحاب المال الفاسد والبورجوازيين العملاء، هي التي شكّلت العنصر الغالب داخل السلطات الرسمية وهي التي خدمت أساسا المصالح الاقتصادية الأجنبية (الفرنسية بالدرجة الأولى) في بلدنا.
(نهاية الجزء الأول)
كتب النص: محمد وليد قرين
صدر هذا المقال في جريدة الحياة الجزائرية، يوم أمس بتاريخ 05 سبتمبر 2019