التيار النِيُولِيبِرَالِي في الجزائر، حكم ايديولوجيته الاستهلاكية وتسليع القيم والعلاقات الاجتماعية

pobel-prisoner of consumerismعمل فني لـبوبل، فنان زنقاوي من النرويج. Pobel

إنّ السيارة « كلاس» (الفخمة)  تمثّل، في المجتمع المعرّض للحملات العنيفة لفكر عبادة المال والفرجة، أحد رموز الپْريسْتيج (المقام) الاجتماعي مثلها مثل ساعة اليد والملابس « ماركة » وعلامة السمارتفون « الماركة » مثلا.

كتب الأديب الجزائري عْمارَة لَخُوص، في روايته « البق والقرصان » ، على لسان الشخصية الراوي حسينو ما يلي: « كل النساء سلع.منها الرخيصة. منها الغالية. الزواج بورصة. بيع وشراء. العرسان هم الزبائن. العرائس هن السلع. الخطّاب هم السماسرة. المهر هو الثمن… ». جملة تختصر واقعا مريرا يعاني منه جزء كبير من الشباب الجزائري ويجعل لهم التفكير في مشروع الزواج (خاصة بالنسبة للرجال العمال ذوي المداخيل المتوسطة أو الذين يتقاضون شهرية بسيطة) وكأنه كابوس بسبب تكاليفه المبالغ فيها مما يأزّم حالة الكبت. الزواج أصبح للأسف في كثير من الحالات، وخاصة في المدن الكبرى، عملية بيع وشراء، عملية مسلّعة. أي نعم، وسنعمل في نصنا هذا على تبيين كيف يصير الزواج شبيها بالسلعة في مجتمعنا.

إنّ تسليع الزواج وتحويله إلى سوق ليس وليد الصدفة ولم يظهر لأن « الزمن تغير » بل هو نتيجة إقامة الإيديولوجيا الاستهلاكية وقيمها في مجتمعنا منذ أن قرر أصحاب القرار والنفوذ السياسيَّيْن والاقتصاديَّيْن في بلدنا، في منتصف ثمانينات القرن الماضي انتهاج السياسات النيوليبرالية لـ« تحرير » الاقتصاد الوطني و »الانفتاح » على السوق الدولية وتصفية العديد من المؤسسات العمومية الوطنية. ورافق « تحرير » الاقتصاد الوطني تغلغل فكر نيوليبرالي خبيث في أوساط المجتمع جوهره هو الدعوة إلى تسليع كل شيء. ويهدف هذا الفكر إلى ترسيخ مقولات في أذهان المواطنين كـمقولة « الخدمات الاجتماعية الجيدة لا يجب أن تكون مجانية أو في متناول الجميع بل يجب أن تكون فقط في متناول من يستطيع دفع ثمن تلك الخدمات » ومقولة « كل خدمة اجتماعية مجانية هي بالضرورة رديئة ».. وفي الجزائر هيّأ التيار النيوليبرالي الأرضية لانتشار روضات رضاعة ومدارس ابتدائية ومتوسطات وثانويات خاصة وإنشاء عيادات استشفائية خاصة وهي ظاهرة لا نزال نشاهدها اليوم، وبالمقابل شهد القطاع العمومي تدهورا كبيرا خاصة في ميداني الصحة والتعليم. نفتح هنا قوس للقول أنه اتضح للعديد من الناس في مجتمعنا أن المؤسسات التعليمية الخاصة لا تمثل معيارا للتحصيل العلمي السليم لأنها ترى التلميذ « دراهم » وتحول جميع التلاميذ إلى « ناجحين » بمن فيهم الفاشلين والكسالى، فقط لأن أولياءهم اشتروا ثمن نجاح أطفالهم. وماذا عن حق الزواولة والمستضعفين؟! النيوليبراليون لا يقيمون لهم حسابا، فهمهم الوحيد هو الحفاظ على مصالحهم الشخصية وامتيازاتهم إذ هم (النيوليبراليون) لا يؤمنون بـ »الصوصيال »، أي بحق الكادحين وأغلبية المواطنين في خدمات اجتماعية مجانية وجيدة! بالختصار تأمر المنظومة السياسية الاقتصادية النيويبرالية بتسليع المعرفة والتعليم وتسليع التداوي وصولا إلى تسليع العلاقات بين الناس (مثلا علاقات الحب، علاقات الصداقة، تسليع المساعدة، تسليع النصائح، إلخ) إذ إن النيولبرالية تحمل شعار « كل شيء بالدراهم » وتحث على التحلي بصفات الأنانية والعمل على خدمة الفرد لمصلحته الشخصية فقط فهي بالتالي (أي النيولبرالية) تكفر بالأخلاقيات التقليدية الموجودة في كل مجتمع قائم على مبدأ الجماعية مثل أخلاقيات التعاون والتضامن والتآخي، وخدمة الفرد لصالح الجماعة والجماعة لصالح الفرد. ويرتكز مجتمعنا، تقليديا، على هذه الأخلاقيات النبيلة المذكورة للتو والتي يرمي التيار النيوليبرالي في الجزائر وأنصاره وعناصره من أوليغارشيين محليين إلى محوها محوا تاما. يعني أنّ النيولبرالية، في النهاية، ترمي إلى تفكيك روابط التعاون والتضامن بين الأفراد في مجتمعنا وإلى ضرب الدولة الاجتماعية التي نشأت بعد حرب التحرير الوطني وإلى استبدال الحضارة الاستهلاكية بالحضارة الجماعية تحت شعار « سعادة الفرد في الاستهلاك المفرط »، « فكر في نفسك فقط، لا تفكر في منفعة الأقارب والجماعة »، « اضرب لجيبك »، « اعمل أكثر لكي تكسب المزيد من الأموال وتستهلك أكثر ». والتعبير الشعبي « عقلية طاق على من طاق » بعربيتنا الدارجة يترجم جيدا واقع إقامة المنظومة النيوليبرالية في مجتمعنا.

يكتب كارل ماركس وفريدريك انجلز في « الايديولوجيا الألمانية »، ما يلي: « إن أفكار الطبقة السائدة هى في كل عصر الأفكار السائدة أيضا، بمعنى أن الطبقة التى تمثل القوة المادية فى المجتمع هي فى الوقت ذاته القوة الفكرية السائدة. إن الطبقة التى تتصرف بوسائط الإنتاج المادي تملك فى الوقت ذاته الإشراف على وسائط الإنتاج الفكري، بحيث أن أفكار أولئك الذى يفتقرون إلى وسائط الإنتاج الفكرى تخضع من جراء ذلك لهذه الطبقة السائدة ». (كارل ماركس وفريدريك أنجلز: الأيديولوجية الألمانية، ترجمة فؤاد أيوب ، دار دمشق، دمشق، 1976، ص. 56) وتوضّح هذه الأسطر كيف تؤثر ايديولوجيا الطبقة السائدة على الفكر اليومي للمواطنين في بلدنا خاصة وفي أي بلد كان عامة. ويجدر الذكر في هذا الصدد أن الايديولوجيا الاستهلاكية والسياسات النيوليرالية مزقت الثقافات الأصيلة والأوصال التضامنية بين الأفراد في مجتمعات دول أوروبا الغربية وأقامت فيها قيم الأنانية ومنطق المنافسة وممارسة الداروينية الاجتماعية (خطاب « الانسان ذئب لأخيه الإنسان » وعرض هذا الخطاب كأنه قانون « طبيعي »). وتمثل مقالات بيار باولو بازوليني (إيطاليا)  Acculturazione e acculturazione وIl Genocidio وبيار بورديو (فرنسا) L’essence du néolibéralisme شهادات حية عن عملية تدمير الثقافة الأصيلة للمجتمع بسبب السياسات النيوليبرالية.

يكتب بورديو في مقالته « L’essence du néolibéralisme » ما يلي: ما هي النيوليبرالية؟ هي برنامج يدمّر البنى الجماعية القادرة على تعطيل منطق السوق المحض ».

ليس الفكر النيوليبرالي بغريب عن تفشي ممارسات الرشوة في مختلف المجتمعات في العالم بما فيه مجتمعنا إذ تقدس المنظومة النيوليبرالية والايدولوجيا الاستهلاكية الربح السريع وكسب الأموال (بطرق غير شرعية) إلى درجة أن هذا التقديس يصبح ديانة جديدة عند أنصار النيوليبرالية والمؤمنين بها، فتراهم يعبدون المال والربح (كغاية لا كوسيلة) ويعتبرونه كـ »إله جديد » بينما يقوم ديننا الإسلام على شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله.

لعبادة المال ومنطق الربح السريع (هما مولودا الفكر النيوليبرالي) عواقب وخيمة على العلاقات الاجتماعية للفرد (يغذّيان في نفسه الأنانية والجشع، ويبعدانه عن أقاربه، عن أصدقائه) وهما محركان رئيسان للآفات الاجتماعية كالنهب مثلا أو كجريمة القتل العمدي.

لنر الآن نماذج من الخطاب اللفظي واللالفظي لتسليع عرف الزواج والعلاقات الاجتماعية في الجزائر:

  • عندما يشترط والدا الفتاة المخطوبة (المنتمية إلى أسرة متوسطة جدا أو معوزة) مهرا غاليا يفوق امكانيات الخاطب (المنتمي إلى أسرة متوسطة جدا أو معوزة) مما يعطي الانطباع أن الخاطب سوف « يشتري » زوجته المستقبلية. تجدر الإشارة في هذا السياق إلى أن جزء كبير من الشبان في مجتمعنا يحتقر ويعيب الفتاة التي تزوج بها مقابل مهر متواضع، عندما ينشب شجار بينه وبينها مثلا ، لأن « الحصول عليها  » كان « رخيصا  » في رأيه وهذا ما يعتبره « تبريرا شرعيا » لسوء معاملته لها في الحياة اليومية. ولكي نبقى في نفس السياق يمكننا أن نتحدث كذلك عن بعض الشبان العاطلين عن العمل أو (ممن لديهم شهرية متواضعة) الذين يطمحون إلى الزواج من شابة تملك سيارة وعملا ذو مدخول مالي لا بأس به ولديها شقة وتنتمي إلى عائلة ميسورة الحال.
  • إقامة العرس بقاعة حفلات فخمة (تكلّف للعريس بقرة وبنتها أليس كذلك) بمقتضى عقلية « شوفوني » (إبهار الناس) وما يسبق ذلك  من نقل العروسة في سيارة فخمة (تم كراءها بثمن باهض أو استلافها، كيفية الحصول عليها لا تهم في هذا السياق) مزينة بالورود. يعطي لنا كل هذا الانطباع عن مشاهدة يوم ترويجي لسلعة ما (السلعة هنا هي العروسة وفرجة العرس في نفس الوقت) . تخص ملاحظتنا هنا كل عريس يريد إقامة حفل زفاف بتكاليف تفوق امكانياته، سواء منتميا كان إلى الطبقة المتوسطة أو إلى الطبقة الكادحة. للأسف أصبح إظهار رموز الثراء هو أحد المعايير التي « يُكسب » بها « احترام » الناس و »تقديرهم » في مجتمعنا.  في ماضي ليس ببعيد جدا (ثمانينات القرن الماضي) لم تكن ثمة قاعات حفلات ولم يكن الــتْريتُور موجودا إذ كان حفل الزفاف يقام في الحومة/الحارة/الحي، في جو عائلي رحب وكانت نسوة العائلة مع الجارات هن من يحضّرن المأكولات والحلويات الخاصة بحفل الزفاف.
  • اتباع منطق نفعي فردي ومادي في انشاء العلاقات الاجتماعية. مثال: البحث عن مصاحبة شخص ذو نفوذ مالي كبير أو شخص يمكن أن تُستخرج منه فائدة مادية معينة وتجاهل أو التخلي عن صديق أو أصدقاء قدماء يتحلون بخصال حميدة كالوفاء، الكلمة، الشهامة، النزاهة ولكن لا يجد فيهم المصْلَحْجي الأناني ما « يربحه » معهم. أي اتباع منطق « عندك تسوى ما عندكش ما تسواش! » ومصاحبة « اللي فيه الفائدة » وتجاهل « اللي ما يجيب والو ».
  • استعمال مفهوم « الرأسمال البشري » عند الحديث عن العمّال مثلا، كأنّ البشر مجرد « سلعة ». هذا المصطلح يشيّء الناس.

نجد نفس هذه النماذج من تسليع طقوس الزواج وتسليع الخدمات والعلاقات الاجتماعية في الجمهوريات الاسلامية الآسيوية المنتمية سابقا إلى الاتحاد السوفيتي (طاجكستان مثلا) أو في الدول السابقة للمعسكر الاشتراكي ( رومانيا وبلغاريا مثلا).  وعندما ندرك أنّ النيوليبرالية المعولمة هي من أقامت الايديولوجيا الاستهلاكية يبطل العجب، إذ إن السياسات النيوليبرالية، التي انطلقت في سبعينات القرن الماضي، تندرج ضمن هذه العولمة المجانسة التي تجري على مستوى عالمي وتهدف إلى تدمير كل الثقافات الأصيلة والمقاومات الشعبية في العالم .

يتجلى بوضوح تسليع المرأة كفرجة في الصالون الدولي للسيارات بالجزائر العاصمة، أين نرى جمعا غفيرا من الرجال الشبان يسارعون إلى زيارة المعرض مقابل دفع ثمن تذكرة الدخول (إلى موقف السيارات) لـ »غسل أعينهم » بالسيارات « الماركة » وبالفتيات « الماركة » الواقفات إلى جانب السيارات.

يقول عالم الإجتماع الأمريكي أندرو غريلي Andrew Greeley في هذا السياق: « يكفي أن تزور الصالون السنوي للسيارات لتدرك أنه تظاهرة دينية بطقوس عميقة. الألوان، الأضواء، الموسيقى، تبجيل العابدين وحضور كاهنات المعبد (العارضات) والأبهة والإسراف، تبذير المال والحشد المتكتل-كل ذلك قد يمثل في ثقافة أخرى عبادة شعائرية بحق (…) (Andrew Greeley, “Myths, symbols and rituals in the modern world”, The Critic, December 1961, January 1962)

   إلا أن المرأة المسلّعة ليست ضحية في هذه الحالة بل هي جزء من نظام الفرجة بل وتؤمن به هي كذلك بانبهارها هي نفسها بالسيارات الماركة وبمظاهر وعلامات الثراء، تماما مثل الرجل المنبهر بكل هذه الأشياء المذكورة للتو.

عندما كانت في القرن الماضي ايديولجيا جماعية تضامنية (كانت تسمى رسميا اشتراكية إلى غاية نهاية الثمانينات) هي السائدة والمسيرة لحياة الجزائريين الاجتماعية والسياسية والاقتصادية والثقافية، كان جوهر الانسان لا مظهره هو الأهم وكانت عموما قيم نبيلة كالشهامة والنزاهة والاستقامة والتعاون وحب العدل هي الركائز التي تعتمد عليها العلاقات الاجتماعية. تلك كانت القاعدة.

 إنّ إقامة الايديولوجيا الاستهلاكية في الجزائر عملية تدريجية والحمد لله أنها تلقى حاليا مقاومة شعبية (فردية أو جماعية) في مجتمعنا وتتجلى هذه المقاومة الشعبية في الفكر والخطاب اليوميين في عربيتنا الدارجة (مثلا في أغاني وهتافات مجموعات أولتراس النوادي العاصمية في مدرجات الملاعب، خاصة أولتراس نصر حسين داي، اتحاد الحراش، شباب بلوزداد ومولودية العاصمة)، . هذا ما سوف نراه في مقالة أخرى ان شاء الله.

بقلم: محمّد وليد قرين

صدرت هذه المقالة كذلك على جريدة الحياة الجزائرية. الرابط إلى المقالة:

https://www.elhayatonline.com/2019/01/17/%D8%AD%D9%83%D9%85-%D8%A7%D9%84%D8%A5%D9%8A%D8%AF%D9%8A%D9%88%D9%84%D9%88%D8%AC%D9%8A%D8%A7-%D8%A7%D9%84%D8%A7%D8%B3%D8%AA%D9%87%D9%84%D8%A7%D9%83%D9%8A%D8%A9-%D9%81%D9%8A-%D8%A7%D9%84%D8%AC%D8%B2/

المراجع بخصوص رومانيا وبلغاريا وطاجكستان:

-https://www.monde-diplomatique.fr/2017/08/CLEUZIOU/57797

-https://www.cairn.info/revue-revue-d-etudes-comparatives-est-ouest1-2014-1-page-165.htm

-https://www.persee.fr/doc/tiers_1293-8882_2003_num_44_176_5425

 

 

 

 

Laisser un commentaire