تحرير التربية الوطنية من التبعية الفكرية والاستعمار الثقافي (الجزء الثاني والأخير)

هذا التغييب الشبه كلي والإهمال لأدبنا وفكرنا الوطنيين الثوريين في الكتب المدرسية يندرجان في إطار سياسة متعمدة انتهجتها السلطات الرسمية بقيادة الرئيس السابق بوتفليقة لخنق الثقافة الوطنية وجعل مجتمعنا مجتمعا تابعا ثقافيا للغرب (فرنسا بالدرجة الأولى) أو للشرق الأوسط والخليج بحكم أن السلطة المسيطرة خدمت مدة 20 سنة مصالح الرأسمال الأجنبي (تشجيع الاستيراد المفرط وتفضيلها المنتجات المستوردة وخنق وتخريب قطاع الانتاج الوطني العمومي، غلق مؤسسات عمومية وتسريح عمّالها) حتى حولت بلدنا إلى شبه مستعمرة اقتصاديا، وهذه النتيجة كانت حتمية بحكم أن الطبقة المسيطرة المتكونة من أصحاب المال الفاسد والبورجوازيين العملاء هي من شكّلت العنصر الغالب داخل السلطات الرسمية.

هكذا يمكن فهم سبب عدم انجاز السلطات الرسمية منذ 20 سنة لأي إصلاح يُذكر لتثمين الأدب والفكر الوطنيين في كتب المطالعة المندرجة في برامج المنظومة التربوية الوطنية. شخصيا،  كنت تلميذا في طور المتوسط وفي الثانوية ما بين سنوات 1998 و2003 وانتقلت إلى جامعة الجزائر المركزية عارفا أسماء ميخائيل نعيمة، طه حسين، العقّاد مثلا وجاهلا أسماء مولود معمري وأبو القاسم سعد الله وأبو العيد دودو وعديد الأدباء والمفكرين الوطنيين الآخرين. أتذكر أنني كنت أصاب بملل شديد في القسم كلما جرى الحديث عن كاتب أجنبي سواء بالعربية أو بالفرنسية لأنني كنت أشعر أن أعمالهم تعالج واقعا وانشغالات بعيدة عنا كمراهقين عامة وكجزائريين خاصة، ناهيك عن الأشعار المكتوبة في العصور الوسطى في شبه الجزيرة العربية. كان زملاء كثيرون يقاسمونني ذلك الشعور بالملل. الكاتب الوحيد الذي لفت انتباهي حينذاك كان التونسي أبو القاسم الشابي في قصيدته « إرادة الحياة » لأنه يتحدث عن شعب مستعمر مقهور يريد التحرر. وهذا الشعب هو جارنا. ونحن الجزائريين عرفنا واقع الاستعمار المرير وخضنا حرب تحرير وطنية من أجل انتزاع استقلالنا، استقلال بات مهددا اليوم وجاءت ضرورة تجسيده بحق في قائمة مطالب الحراك الوطني الشعبي.

لولا تحفيز الأستاذ بابا عمر رحمه الله في قسم الترجمة (بجامعة الجزائر) لقراءة أعمال بن هدّوقة ولولا تحفيز الأستاذ محمد بوحميدي لقراءة أعمال محمد ديب لما اهتممت فعلا بمطالعة الأدب الوطني، فأنا بالتالي ممتن جدا لهما.

من المفروض أن يتشبع التلميذ الجزائري بأدباءنا ومفكرينا الوطنيين والثوريين (أي الكلاسيكيات الوطنية) أوّلا وقبل كل شيء حتى يرتبط بقوة بالثقافة الوطنية ويثمّنها. من المفروض أن يتشرب التلميذ بالفكر والأدب القوميين والوطنيين (بمعالم ومرجعيات جزائرية) حتى ينتقل بعدها إلى اكتشاف الأدب والفكر العالميين دون أن يفقد ذاته/هويته.

تحتاج منظومتنا التربوية إلى إصلاح جذري يثمن ثقافتنا الوطنية وهذا الإصلاح يجب أن يكون مصحوبا بعنصر في غاية الأهمية، ألا وهو ضرورة تلقين التلاميذ أدوات التحليل النقدي، وأخص هنا بالذكر تحليل الخطاب وتحليل النصوص، حتى ينمّي التلميذ حسه النقدي ولا يتحول إلى ببغاء.

إنّ كل عمل أدبي ينتج في ظروف تاريخية، سياسية، اقتصادية، اجتماعية وثقافية خاصة بالبلد الذي ينتمي إليه الكاتب، وهذا الأخير ينتمي بدوره إلى وطن معين، إلى طبقة اجتماعية معينة وإلى حضارة معيّنة، إذ تنغرس الأعمال الأدبية لمؤلفين كـعبد الحميد بن هدوقة، الطاهر وطار، مولود معمري، كاتب ياسين، أحمد رضا حوحو في واقع اجتماعي اقتصادي جزائري (وشمال إفريقي) وتتميز بالثورية والتقدمية في معالجة الواقع، في مناهضة استغلال الإنسان للإنسان، في الوقوف إلى جانب الزواولة ومعذبي الأرض، في الترويج لثقافة النضال والجهاد (الجهاد بالمعنى النبيل المتعارف عليه في بلدنا) ولقيم التضامن والتآخي وفعل الخير.

لا مانع في اطلاع التلميذ على الكتّاب الأجانب المشهورين (بل التفتح على ثقافات الغير شيء جميل) ولكن الأصح والأنسب أن يعرف التلميذ أوّلا كُتّاب بلده المشهورين. يجب أن تكون الأسبقية للأدب وللفكر الوطنيين. من الأصح أن يعرف التلميذ في المتوسط وفي الثانوي أسماء كأبو العيد دودو، محمد السعيد الزاهري، رضا حوحو، محند الشريف الساحلي. من الأصح والأنسب أن يعرف التلميذ الجزائري ما يزخر به تراثنا الوطني الشعبي من قصص وقصائد شعبية قديمة قبل أن يعرف قصص وقصائد شعوب أخرى.

يجب تحرير قطاع التربية الوطنية من التبعية الفكرية ومن الاستعمار الثقافي. إنه تحرير يرتبط ارتباطا وثيقا بضرورة تحرير الوطن من الاستعمار الاقتصادي والتبعية السياسية.

بقلم: محمد وليد قرين

Votre commentaire

Entrez vos coordonnées ci-dessous ou cliquez sur une icône pour vous connecter:

Logo WordPress.com

Vous commentez à l’aide de votre compte WordPress.com. Déconnexion /  Changer )

Image Twitter

Vous commentez à l’aide de votre compte Twitter. Déconnexion /  Changer )

Photo Facebook

Vous commentez à l’aide de votre compte Facebook. Déconnexion /  Changer )

Connexion à %s

%d blogueurs aiment cette page :
search previous next tag category expand menu location phone mail time cart zoom edit close